تعمل الوكالات الحضرية منذ عشرات السنين، طبقا للمادة 3 من الظهير بمثابة قانون رقم 1-93-51 المؤرخ في 22 ربيع الأول 1414 (10 شتنبر 1993)،حيث تتولى القيام بالدراسات اللازمة لإعداد المخططات التوجيهية المتعلقة بالتهيئة الحضرية ومتابعة تنفيذ التوجيهات المحددة فيها وبرمجة مشاريع التهيئة المرتبطة بتحقيق الأهداف الكبرى للتعمير وسياسة المدينة.
وخلال الفترة الأخيرة قررت الدولة إلغاء سياسة التعمير المعمول بها والتوجه نحو نهج جديد يعتمد على الوكالات الجهوية للتعمير والإسكان وإلغاء الوكالات الحضرية في خطوة تهدف إلى تجويد سياسة التعمير والاسكان.
وفي خضم هذه المتغيرات الهامة يشرح الكاتب العام للمنظمة الديمقراطية للوكالات الحضرية محمد هنشيش ، في حوار مع جريدة “المغرب7” ، حيثيات هذا التغيير والاسباب التي دفعت الى التفكير في خلق سياسات عمومية جديدة على مستوى التعمير .
في يلي نص الحوار الكامل :
أولا نشكر السيد الكاتب العام على هذا الحوار الهام في ظل تغيرات كبيرة يشهدها قطاع التعمير والإسكان وسياسة المدينة. وفي البداية، ما سبب لجوء وزارة اعداد التراب الوطني واعدادالتراب الوطني الى احداث الوكالات الجهوية للتعمير والإسكان وبذلك الغاء كل من الوكالات الحضرية والمفتشيات الجهوية للتعمير وكذا المديريات الإقليمية للسكنى وسياسة المدينة وهل يعني ذلك فشل الوكالات الحضرية في تاطير قطاع حيوي كقطاع التعمير ؟
من أجل تقييم موضوعي لتجربة الوكالات الحضرية بالمغرب خلال أربعين سنة من إحداثها، نعتقد أنه من الضروري استحضار السياق الذي تم فيه إحداث هذه المؤسسات العمومية من طرف الدولة.
في هذا الشأن، فقد شكلت أحداث الدار البيضاء سنة 1981، بتداعياتها المؤلمة، تأكيدا على فشل السياسة العمرانية لمدينة بحجم الدار البيضاء، تمتد آنذاك على مساحة 120 ألف هكتار، تنمو وتتوسع بشكل فوضوي، وتشهد تدهورا حضريا يظهر بوضوح من خلال النمو الديموغرافي الكبير والتركيز الاقتصادي المفرط الناتج عن سياسة عقارية غير مضبوطة، ووثائق تعمير غير متناسقة وتدبير حضري غير فعال، كل ذلك أدى إلى انعدام التجهيزات البنيوية التحتية والفوقية كما خلق أزمة اجتماعية خانقة، وهوما دفع الدولة إلى إحداث مؤسسة جديدة في سنة 1984 هي الوكالة الحضرية للدار البيضاء، وذلك من أجل تأطير أفضل لقطاع التعمير وتقريب الإدارة من المواطنين، مع منح هذه المؤسسة صلاحيات قانونية في مجالي التخطيط والتدبير الحضري وكذا القيام بعمليات عقارية وإحداث توسعات عمرانية بصفة مباشرة.
إن نجاح تجربة الوكالة الحضرية للدار البيضاء آنذاك، جعلت بعض الفقه القانوني المهتم بمجال التعمير يؤكد أن الوكالات الحضرية قادرة على معالجة المشاكل الناجمة عن حركة التمدن والتوسع العمرانيين، ويبدو أن هذا النجاح النسبي، بالموازاة مع تطور أدوار وكالات التعمير في فرنسا ومساهمتها بشكل كبير في التنمية المحلية للمجالات الترابية، شجع الدولة على الاستمرار في هذه التجربة، حيث بادرت إلى إحداث وكالات حضرية غطت في البداية كبريات المدن المغربية، كفاس بعد أحداث دجنبر 1990، قبل أن يتم سحب الوصاية على هذه المؤسسات من وزارة الداخلية خلال حكومة التناوب التوافقي، و يستقر التوجه لاحقا إلى تعميم مؤسسات الوكالات الحضرية ليبلغ عددها 30 وكالة تغطي كامل التراب المغربي، وبذلك، فقد شكلت الوكالات الحضرية جوابا مؤسساتيا محوريا من طرف الدولة على سؤال التخطيط العمراني وتحدياته، ولذلك عمدت إلى إحداثها وتعميمها وتنظيمها، ومتعها المشرع بمكانة قانونية ومؤسساتية مهمة، كما أناط بها مهام متنوعة.
هذه التجربة التي تطورت بإيجابياتها وسلبياتها وإكراهاتها على مدى أربعين سنة من خلال وكالات تم إحداث أولاها سنة 1984 و إحداث آخر جيل منها سنة 2013، جعلت تقييم حصيلتها ونتائجها تختلف و تتباين، بين من يرى أنها تحولت إلى مؤسسات عصرية معتمدة على آليات التدبير الإداري الحديث مما أهلها للمساهمة الفاعلة في الحد من اختلالات التعمير ببلادنا، ولعب أدوار حيوية في استشراف مستقبل التراب والمجال، مع تقديم خدمات جيدة للمواطنين، من خلال تدبير نجح في أن يكون أفضل من التدبير في ظل الإدارة العمومية الخاضعة لنظام الوظيفة العمومية أو تدبير الجماعة الترابية، وبين من يذهب في اتجاه أنها مجرد عبء مؤسساتي إضافي يمكن أن تُسند وظائفه إلى الدولة والجماعات الترابية والخواص، وأن مركز القرار في قضايا التعمير بقي حكرا على الفاعلين المؤسساتيين التقليديين دون أن تمتلك الوكالات الحضرية سلطات حقيقية ومؤثرة في هذ المجال، وأن الاستقلالية المالية والإدارية قد حولت بعضها إلى مرتع لممارسات غير سليمة ولشتى أنواع الممارسات السيئة، تحت مبرر الاستقلالية، وفي ظل نظام أساسي متجاوز يزيد من عبثية تطبيقه ضعف منظومة الرقابة، مما حولها إلى حلقة إضافية ونسخة مزيدة ومنقحة في مسلسل البيروقراطية الإدارية، و كلتا المقاربتين تستندان إلى مؤشرات رقمية و موضوعية.
سؤال آخر؛ هل ساهمت الوكالات الحضرية في تحسين جودة العيش الحضري؟
نعتقد أن الوكالات الحضرية قد ساهمت بشكل ملموس في تحقيق العديد من المنجزات والمكتسبات على مستوى التخطيط العمراني وتحسين جودة العيش الحضري، وهو ما تؤكده مجموعة من المؤشرات الإيجابية، التي لا يمكنها في نفس الوقت أن تلغي واقع التفاوتات المجالية النابعة من عدة اعتبارات وإكراهات موضوعية وإشكالات بنيوية عميقة.
فعلى مستوى وثائق التعمير وأدوات التخطيط العمراني، نجد أنها انتقلت من نسبة جد متدنية قبل سنة 1999، إلى تغطية شبة كاملة تبلغ نسبتها 98% من المجال الحضري و75% من المجال القروي في 2023، مع ارتفاع متوسط وثائق التعمير المصادق عليها من عدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة ، إلى 130 وثيقة سنويا خلال الفترة ما بين 2015 و 2023، مكنت من فتح أزيد من 100 ألف هكتار للتعمير تم تخصيصها للسكن والأنشطة الاقتصادية والمرافق والفضاءات العمومية، فيما بلغت نسبة الرأي الموافق على ملفات التدبير الحضري على مستوى غالبية الوكالات الحضرية نسبة 70%، من خلال العمل بالمنصة الرقمية رخص التي ساهمت في رقمنة هذا القطاع وإرساء الشفافية على هذا المستوى، وهي كلها مؤشرات ساهمت بشكل كبير في ضبط التنمية العمرانية وتخطيطها بشكل أفضل.
هذه المؤشرات الإيجابية، تصطدم بواقع طول مدة دراسة وثائق التعمير مما يجعلها في غالب الأحيان متجاوزة وغير ذات مصداقية، كما أبانت الدراسات أن ضعف الميزانيات المرصودة لأجرأة مقتضيات وثائق التعمير، يجعل عملية إنجاز المرافق العمومية المنصوص عليها لا يتجاوز 25% على أفضل تقدير، وهو ما يجعل هذه الوثائق معرقلة للاستثمار بدل أن تكون محفزة له، مع إثارة الفشل في إرساء الطابع التشاوري والديموقراطي للتعمير، والغياب شبه التام للاستدامة والبعد البيئي الذي يحضر بقوة في التجربة الفرنسية، مما أفرز واقعا مترديا على مستوى أغلب المدن المغربية، كما أن مسألة الرأي الملزم للوكالات الحضرية تشكل عامل عرقلة لم يعد مستساغا أو مبررا خصوصا بالنسبة للمشاريع الصغرى، في ظل ترسانة قانونية متجاوزة لا تراعي إكراهات العالم القروي الذي يحتاج إلى تعاط يراعي وضعيته، فيما يتميز مجال التعمير بتعدد المتدخلين بشكل لا يمكن من الفعالية والنجاعة، في ظل منظومة للتخطيط الترابي وأنماط التطوير العقاري الموروثة عن القرن الماضي وصلت إلى نهاية دورتها، وأصبحت غير ملائمة لتدبير التحديات الجديدة التي تواجهها المجالات الحضرية والقروية، حيث أن مسطرة التخطيط العمراني معقدة جدا، إذ أن المصادقة على أي وثيقة رهينة ب 33 متدخلا يبدي وجهة نظره فيها، وبعد المصادقة يلزم 113 توقيعا.
هل نجحت الوكالات الحضرية في الرفع من جودة المشهد الحضري والمعماري في المدن المغربية ؟
فيما يتعلق بتطور المدن المغربية، من الأهمية بمكان استحضار مؤشر هام يتعلق بانتقال معدل التمدن في المغرب من 29 % سنة 1960 إلى 55 % سنة 2014، كما عرف المغرب ازدياد عدد السكان الحضريين من 44000 نسمة سنة 1912 إلى 18 مليون نسمة سنة 2012، مع توقع بلوغ معدل التمدن نسبة 70% سنة 2050، ولا يخلو هذا التطور من تأثير على البنية الوظيفية للنظام الحضري المغربي، ما دامت المدن قد عرفت، وستعرف دون شك، تغييرات على المستوى السوسيو مجالي، كما ستواجه عدة معيقات على مستوى التوسع العمراني والاجتماعي والبيئي.
اليوم، سيكون من باب الإجحاف عدم تسجيل التطور الكبير الذي شهدته مجموعة من المدن المغربية خلال العشرين سنة الأخيرة في ظل الأوراش الهامة و الاستراتيجية التي تم إطلاقها بمبادرات ملكية، و التي غيرت وجه بعض المدن و رفعت من جودة مشهدها الحضري و المعماري و حولتها إلى أوراش متواصلة، على كافة المستويات، لكننا نعتقد أن نسبة هامة من الوكالات الحضرية، رغم المجهودات المبذولة، لم تواكب هذه الدينامية بالشكل المطلوب، اعتبارا لعدة إكراهات، بعضها مرتبط بما هو بنيوي في ظل تعدد المتدخلين و تعقد المساطر و تقادم الترسانة القانونية، و البعض الآخر مؤسساتي مرتبط بنظام أساسي متجاوز و غير محفز أفرغ هذه الوكالات من خيرة مواردها البشرية أو حول غالبيتهم إلى مستخدمين بدون حافز و دافع للاشتغال و الإبداع و المبادرة، و بنمط تدبير سيء و فاشل و ريعي من طرف مجموعة من المدراء و المسؤولين الذين تم تعيينهم بطرق ملتوية، و تثبيتهم في مناصبهم أو تدويرهم من وكالة لأخرى لإنتاج نفس أساليب الفشل، من خلال استقوائهم بعلاقات ريعية و مصلحية مع بعض مراكز القرار في الوزارة التي استغلت تعاقب 7 وزراء على القطاع خلال الفترة الممتدة ما بين 2012 و 2021، لتتقوى و تنسج علاقات مستندة على التبعية و الولاء و تكوين لوبي قوي في خدمة أجندات ضيقة.
-تستعد الحكومة للتخلي عن الوكالات الحضرية على صعيد كل إقليم، وتعويضها بإحداث 12 وكالة حضرية وفق التقسيم الجهوي، ما الهدف من ذلك والمغزى من إحداث هذه الوكالات وفق التقسيم الجهوي، أم أن الأمر لا يغدو أن يكون رياضة وطنية تمارسها الحكومات في إطار اللعب بالمؤسسات وأن كل حكومة تحاول وضع بصمتها بالشكل الذي تريده؟
اصطدم إصلاح الوكالات الحضرية، سواء على المستوى القانوني أو التدبيري أو التخليقي أو المؤسساتي أو المالي، بمجموعة من الصعوبات والعراقيل والتحديات التي حالت دون إصلاح حقيقي وشامل لهذه المؤسسات، رغم المجهودات المبذولة والنتائج المحققة على عدة مستويات، وإذا كان بعض هذه التحديات متوقعا بل ومنتظرا نظرا لطبيعة هذه المؤسسات ولرهانات الإصلاح وكثرة المتدخلين وتضارب المصالح في قطاع حساس، مما يجعل كل تغيير حقيقي يواجه بمقاومة تسعى إلى تكريس بعض الأوضاع القائمة، والسعي لضمان استمراريتها، فإن بعضها لم يكن متوقعا، حيث أن نسبة مهمة من الوكالات بدا وكأنها قد اكتسبت مناعة قوية ضد أية عملية تغيير، بل استطاعت أن تطور قدرة هائلة على قتل كل مبادرة حقيقية ترمي إلى التجديد والإبداع والإصلاح، في غياب شبه تام لربط المسؤولية بالمحاسبة، خصوصا و أن تفعيل هذا المبدإ الدستوري لا يتطلب سوى إرادة سياسية حقيقية، و تقوية دور المفتشية العامة للوزارة، في ظل الاختلالات الواضحة و الفاضحة التي تعرفها بعض الوكالات الحضرية و تحولها إلى مرتع خصب للفساد و تصفية الحسابات و إهدار المال العام بشكل ممنهج.
في هذا الشأن، وعلى سبيل المثال، ورغم مجهودات كل الوزراء المتعاقبين على تسيير القطاع منذ سنة 1998، بدرجات متفاوتة، فإن الوكالات الحضرية لا تزال على حدود سنة 2024، بدون نظام أساسي موحد، وبدون هياكل تنظيمية موحدة أو متجانسة، كما أن القانون المحدث لها والمحدد لاختصاصاتها وأدوارها، والذي يعود تاريخ إصداره إلى حوالي 30 سنة خلت، ما زال دون تغيير، في حين أن أدوار الوكالات قد تغيرت بشكل كبير، كما أن دستور 2011 وما تلاه من توجهات، يفرض ملاءمة القوانين المنظمة للوكالات الحضرية ومراجعة إطار اشتغالها.
في هذا السياق، تتبعنا تصريح السيدة فاطمة الزهراء المنصوري، وزيرة إعداد التراب الوطني والتعمير والإسكان وسياسة المدينة، في جلسة الأسئلة الشفوية الأسبوعية بمجلس النواب يوم الاثنين 31 أكتوبر 2022، وتأكيدها أمام ممثلي الأمة أن: ” التوزيع الحالي للوكالات الحضرية غير مفهوم، ويصل حد التناقض مع الجهوية الموسعة التي اعتمدتها المملكة”، معلنة عن رغبتها في إصلاح هذه المؤسسات بما يتماشى مع الجهوية الموسعة التي اعتمدها المغرب كخيار استراتيجي، و هو ما يعني فشل التدبير المعتمد في إدارة القطاع لسنوات خلت من خلال تنامي الفساد السياسي والنقابي وتاثيره على المرفق العمومي من خلال اعتماد الانتماء السياسي كمعيار للولوج الى مناصب المسؤولية، وكذا الالتفاف على الفصلين 49 و 92 من الدستور من خلال عدم فتح مناصب المسؤولية السامية للتباري مما جعل عدد من المسؤولين الذين اوصلوا للقطاع لحافة الإفلاس لازالو على راس المسؤوليات لازيد عقدين وشكلوا لوبيات تحكمت في الصفقات والقرارات الإدارية.
لكن كل هذا يتطلب تغيير شامل ينخرط فيه كل الفاعلين ويحترم خصوصيات ومكتسبات كل قطاع في إطار منظومة شاملة للإصلاح تستحضر الأولويات بشكل متواز، و يتم تنزيلها بما يخدم المصلحة العليا لهذه المؤسسات و شغيلتها بعيدا عن كل الحسابات الضيقة، و من خلالها مصلحة التنمية العمرانية و المستدامة لبلدنا على امتداد كل جهات المملكة.